غزوة بدر الكبرى .. يوم الفرقان


الحلقة الثانية : فضائل ربانية ونفحات إيمانية في الواحات الرمضانية  
==========
إعداد وتقديم / صالح لجوري 
==========
غزوة بدر الكبرى .. يوم الفرقان 




الحمد لله وصلى الله وسلم على النبي محمد وعلى آله وصحبة أجمعين ،أما بعد: 
في هذا الشهر المبارك شهر رمضان نصرَ الله المسلمين  في غزوة بدرٍ الكبرى على اعْدائهم المُشركين وسمَّى ذلك اليوم يوم الفرقان لأنه سبحانه فرَّقَ فيه بين الحق والباطل بَنصْر  رسوله والمؤمنين وخذل الكفار المشركين . كان ذلك في شهررمضان في السَّنَةِ الثانية من الهجرة، وكان سبب هذه الغزوة أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه ُ أنَّ أبا سفيان قد توجَّه من الشام إلى مكة بعيْرِ قريشٍ ، فدعا أصحابه إلى الخروج إليه لأخذ العير ، لأنَّ قريشاً حربٌ لرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليس بينه وبينهم عهدٌ ، وقد أخرجوهم من ديارهم وأموالهم وقاموا ضدَّ دعوتهم دعوة الحق فكانوا مستحقين لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه  بِعِيْرِهم . فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه  في ثَلاث مائة  وبضعة عشر رجلاً على فرسين وسبعين بعيراً يتعقبونها منهم سبعون رجلاً من المهاجرين ، والباقون من الأنصار ، يقصدون العير لا يريدون الحرب ، ولكنَّ الله جمع بينهم وبين عدُوِّهم على غير ميعاد ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ويتمَّ ما أراد . فأن أبا سفيان عَلمَ بهم فبعث صارخاً إلى قريشٍ  يستنجد هم  ليحموا عِيْرَهُمْ ، وترك الطريق المعتادة وسلك ساحل البحر فَنَجا. أما قريشٌ فإنَّه لما جاءهم الصارخ خرجوا بأشرافهم عن بكْرِة أبيهم في نحو ألف رجلٍ معهم مئة فرس وسبعمائة بعير ٍ 
﴿بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾(الأنفال :٤٧).
ومعهم الْقِيَانُ يُغَنِّينَ بهجاء المسلمين ، فلما عَلِمَ أبو سفيان بخروجهم بعث إليهم يخبرهم بنجاته ، ويشير عليهم بالرجوع وعدم الحرب ، فأبَوْا ذلك وقال أبو جهل : والله لا نرجعُ حتى نبلغ بدراً ونقيم فيه ثلاثاً ، نَنْحَرُ الجزور، ونُطْعمُ الطعام ، ونسقي الخمر ، وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبداً . أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لما علم بخروج قريشٍ جمع من معه من الصحابة فاستشارهم وقال : إن الله قدْ وعدني إحدى الطائفتين إمَّا العيرَ أو الجيش ، فقام المقداد بن الأسود وكان من المهاجرين وقال : يا رسول الله امْض لـما أمرك الله عز وجل فوالله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى :  ﴿فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾(المائدة:٢٤) ولكن نقاتل عن يمينك وعن شمالك ومن بين يديك ومن خلفك ، وقام سعد بن معاذٍ الأنصاري سيَّدُ الأوْس فقال : يا رسول الله لعلَّكَ تخشى أن تكون الأنصار ترى حقاً عليها أن لا تنصرك إلَّا في ديارهم وإني أقول عن  الأنصار وأجيبُ عنهم فظْعَنْ حيث شئت ، وصِل حبل من شئت ، واقطع حبل من شئت ، وخذ من أموالنا ماشئت ، وأعطنا منها ماشئت ، وما أخذت  منَّا كان أحَبَّ إلينا مما تركت ، وما أمْرت فيه من أمْرٍ فأمْرُنا فيه تَبَعٌ لأمرك ، فوالله لئن سرت بنا حتى تبلغ البرك من غمدان لنَسيرنَّ معك ، ولئن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لنخُوضنَّه معك ،؟وما نكرهُ أن تكونَ تَلَقَى العدوَّ بنا غداً، إنَّنا لصبرٌ عند الحرب ، صِدْقٌ عند اللقاء ولعل الله يريك منا ماتَقَرُّ به عَيْنُك . فسُرَّ النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع من كلام المهاجرين والأنصار -رضي الله عنهم -وقال :  «  سيروا وأبشروا فوالله لكأنَّي أنظر إلى مَصارِعِ القوم » فسار النبي صلى الله عليه وسلم بجنود الرحمن حتى نزلوا أدنى ماءٍ من مياه بدرٍ ، فقال له الحباب بن المنذر بن عمرو بن الجموح : يارسول الله أرأيت هذا المنزل ؟ أمَنْزلٌ أنْزَلَكَهُ الله ليس لنا أن  نتقدم عنه أو نتأخر ؟ أَمْ هو الرَّأْيُ والحرب والمكيدة ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « بل هو الرأي والحرب والمكيدة  »، فقال يارسول الله إن هذا ليس بمنزلٍ ، فانهض بنا حتى نأتي أدنى ماءٍ من القوم فننزله ونُغَوِّر ما وراءه من الْقُلبِ ثم نبني عليه حوضاً فنملأه  فنشرب ولا يشربون فاستحسن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرأي  ونهض (١)، فنزل بالعْدُوَةِ الدُّنيا مما يلي المدينة وقريش ٌ بالْعُدْوةِ القصوى مما يلي مكة  ، وأنزل الله تلك الليلة مطراً كان على المشركين وابلاً شديداً ووحلاً زلقاً يمنعهم من التقدم ، وكان على المسلمين طلّا ً طهرهم ووطَّأ لهم  الأرض وشدَّ الرمل ومهَّد المنزل وثبَّت الأقدام . وبنى المسلمون لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشاً على تل مُشرفٍ على ميدان الحرب ثم نزل صلى الله عليه وسلم  من العريش فسوَّى صفوف. أصحابه ، ومشى في موضع المعركة ، وجعل يُشيرُ بيده إلى  مصارع المشركين ، ومحلاَّت قتلهم يقول: هذا مصرع فلانٍ إنْ شاء الله، هذا مصرع فلانٍ، فما جاوز أحدٌ منهم موضع إشارته ثم نظر صلى الله عليه وسلم  إلى أصحابه وإلى قريشٍ فقال : «اللهم هذه قريشٌ جاءت بفخرها وخُيلائها وخيلها تُحادُّك وتكذّبُ رسولك ، اللَّهُمَّ نَصْرك َ الذي وعدتني ، اللَّهُمَّ    انْجِزْ لي ما وعدتني ، اللَّهُمَّ إن تهلك هذه العصابة اليوم لاتُعْبدَ (٢)، واستنصر المسلمون ربَّهم واستغاثوه فاستجاب لهم :   ﴿ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ۚ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ * ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * ذَٰلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (الأنفال :١٢-١٤).ثم تقابل الجمعان ، وحمي الوطيس واستدارت رحى الحرب ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش ، ومعه ابو بكر وسعد بن معاذ يحرسانه ، فما زال صلى الله عليه وسلم يناشد ربَّه ويستنصره ويستغيثهُ فأغْفَى إغفاةً ثم خرج يقول :  « سيُهْزَمُ الجمع ويُوَلُّوَنَ الدُّبُرَ»  وحرَّض أصحابه على القتال وقال :  «  والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجلٌ فيقتل صابراً محتسباً مُقْبلاً غير مُدْبر إلاَّ أدخله الله الجنة » . فقام عمير بن الحمام الأنصاري وبيده تمرات يأكلهن فقال : يارسول الله جنة عرضها السموات والأرض  قال النبي صلى الله عليه وسلم : نعم  . قال : بخ بخ يارسول الله ما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء ، لئن حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلةٌ ، ثم ألْقَى التمرات وقاتل حتى قتل - رضي الله عن وفي شرح آخر عمير بن الحمام  يتلقى بمنتهى اليقين، لا جدال، لا محاورة.
قال عمير: بَخٍ بَخٍ (كلمة للتعجب).
قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم  : "مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ؟"ممَّ تتعجب؟ أتشك في هذا الكلام؟ فأسرع عمير يقول: لا والله يا رسول الله، ما قلتها إلا رجاء أن أكون من أهلها. قال : "فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا".يا الله! عمير يعلم أنه من أهل الجنة، وهو ما زال يمشي على الأرض، أرض بدر.
بينه وبين الجنة فقط أن يموت.
لم يعُدْ قادرًا أن يعيش لحظة واحدة على الأرض.
كان يمسك بيديه بعض تمرات يتقوَّى بها على القتال.وبعدها فكَّر.
أيُّ تمرٍ هذا الذي أريد أن آكله؟!
أين ثمار الجنة، وطيور الجنة، وشراب الجنة، وحوض الرسول في الجنة؟فألقى بالتمرات على الأرض، وقال كلمة عجيبة؛ قال:" لئن أنا حييتُ حتى آكل تمراتي هذه، إنها لحياة طويلة"(٣). وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم  كفَّاً من ترابٍ  أو حصاً فرمى بها القوم فأصابت أعينهم فما منهم واحدٌ إلا ملأت عيْنَه ، وشُغلوُا بالتراب في أعينهم آيةً من آيات الله عزَّ وجلَّ فهزم جمع المشركين ، وولَّوُا الأدبار واتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون . قتلوا سبعين رجلاً وأسروا سبعين . أما القتلى فألقي منهم أربعةٌ وعشرون رجلاً من صناديدهم في قليبٍ من قُلبان بدر، منهم أبو جهل وشيبة بن ربيعة وأخوه عُتبة وأبنه الوليد بن عتبة  ، وفي صحيح البخاري : عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم استقبل الكعبة فدعا على هؤلاء الأربعة قال فأشهد بالله  
لقد رأيتهم    صرعى قد غيرتهم الشمس وكان يوماً حاراً . وفيه أيضاً عن أبي طلحة -رضي الله عنه أن النبي صلى الله  عليه وسلم   أمر يوم بدرٍ بأربعةٍ وعشرين رجلاً من صناديد قريشٍ فقذفوا في طويًّ من أطواء بدرٍ خبيثٍ مخبثٍ وكان إذا ظهر على قوم  أقام بالعَرْصَةِ ثلاث ليال ، فلما كان ببدرٍ اليوم الثالث أمَرَ براحلته فشُدُّ عليها ثم مشى وأتَّبعه أصحابه حتى قام على شفة الرَّكيِّ فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبآئهم يافلان بن فلانٍ ويا فلان بن فلانٍ أيسُرُّكمْ  أنَّكم أطعتُمُ الله ورسوله ، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ماوعدكم ربكم حقاً ؟ قال عمر : يارسول الله ما تُكلِّمُ من أجسادٍ لا أرواح لها ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :  « والذي نفس محمدٍ بيده ماأنْتُم بأسمع لما أقول لهم  ». وأما الأسرى فإن النبي صلى الله عليه وسلم استشار الصحابه فيهم،  وكان سعد ابن معاذ قد ساءه أمرهم وقال : كانت أول وقعةٍ أوْقَعها الله في المشركين وكان الإثخان في الحرب أحب إليَّ من استبقاء الرجال وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم : أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم فتُمَكِّن عليَّاً من عقيل فيضرب عنقه وتمكِّنني من فلانٍ يعني قريباً له فأضرب عنقه ، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها . وقال ابوبكر رضي الله عنه : هم بنو العم والعشيرة ، وأرى أن تأخُذ منهم فديةً فتكون لنا قوةً على الكفار ، فعسى الله أن يهديهم للإسلام ، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الفدية ،،فكان أكثرهم يفتدي بالمال من أربعة آلاف درهم إلى ألف درهم ، ومنهم من افتدى بتعليم صبيان أهل المدينة الكتابه والقراءة، ومنهم من كان فداؤهُ إطلاق مأسورِ عندقريشٍ من المسلمين ، ومنهم من قتله النبي صلى الله عليه وسلم صبراً لِشدَّةِ أذيِّتِه ، ومنهم  مَنْ مَنَّ عليه بدون فداءٍ للمصلحة . هذه غزوة بدرٍ انتصرت فيها فئةٌ قليلةٌ على فئةٍ كثيرةٍ   ﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا ۖ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ۚ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾(آل عمران:١٣).
انتصرت الفئة القليلةُ لأنها قائمةٌ بدِينِ الله تُقَاتِلُ لإِعْلاءِ كلمة الحق والدفاع عن دينه، فنصرها الله عز وجل . فقوموا بدينكم أيها المسلمون لتُنْصَروا على أعدائكم ، واصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا لعلكم تفلحون . اللَّهُمَّ انصرنا بالإسلام واجعلنا من أنصاره والدعاة إليه وثبِّتَنا عليه إلى أن نلقاك . وصلى الله على نبينا محمدٍ وآله وصحبه أجمعين . 


مصادر ومراجع : 
القرآن الكريم .
السيرة النبوية الشريفة . 
مجالس شهر رمضان للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله . 
(١)- في ما أورده الشيخ بن عثيمين يقول : هذه القصة أعني نزولهم أدنى ماء من مياه بدر وإشارة الحباب ضعيفة جداً سنداً ومتناً. أي أن بن عثيمين : كأنه  يقول ليس الحباب بن المنذر اعلم ممن يوحى إليه الله في إشارته على الرسول بتغيير المكان والله اعلم .
(٢)- لدعا الرسول صلى الله عليه وسلم كاملاً في يوم بدرٍبشروحات متعدده انظر المرجع  : السيرة النبوية لابن هشام،سنن الترمذي ، كتاب مسند الأمام أحمد ، التحرير والتنوير ،البحر الزخار المعروف بمسند البزار ، المعجم الكبير، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ، وغيره.
(٣)- مسلم: كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد (1901)، وأحمد (12421.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

المعذرة.. لم أعلم أنهم أصحاب سوابق!!

أسر فقدت عائلها .. وقصف طال المنازل والمدارس والأسواق العامة في يافع

تواصل التحضيرات لتكريم الشاعر القمع في مدينة بني بكر بيافع