الناس يوم القيامة
الناس يوم القيامة يرجون ولو حسنة، حسنة واحدة قد تنجيهم من النار ، ولذلك فإنهم يضنون بحسناتهم حتى على أحب الخلق إليهم، ذلك أن الزحزحة عن النار قد تعلق على حسنة واحدة، لو تكون لرجحت بها الموازين، وكانت بها النجاة على الصراط...
قال تعالى: (فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ* يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ* وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ* وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ* لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (عبس : 33ــ 37).
قال الحافظ ابن كثير: " قال: وإن الرجل لقي ابنه فيتعلق به فيقول يا بني أي والد كنت لك؟ فيثني بخير فيقول له يا بني إني احتجت إلى مثقال ذرة من حسناتك لعلي أنجو بها مما ترى فيقول ولده: يا أبت ما أيسر ما طلبت ولكني أتخوف مثل الذي تتخوف فلا أستطيع أن أعطيك شيئا. يقول الله تعالى: (يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه) وفي الحديث الصحيح ـ في أمر الشفاعة ـ أنه إذا طلب إلى كلٍ من أولي العزم أن يشفع عند الله في الخلائق؛ يقول: نفسي نفسي، لا أسألك اليوم إلا نفسي، حتى إن عيسى ابن مريم يقول: لا أسأله اليوم إلا نفسي، لا أسأله مريم التي ولدتني. ولهذا قال تعالى: (يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه)..
قال عكرمة: يلقى الرجل زوجته فيقول لها يا هذه أي بعل كنت لك ؟ فتقول نعم البعل كنت وتثني بخير ما استطاعت فيقول لها فإني أطلب إليك اليوم حسنة واحدة تهبيها لي لعلي أنجو مما ترين فتقول له ما أيسر ما طلبت ولكني لا أطيق أن أعطيك شيئا أتخوف مثل الذي تخاف قال قتادة الأحب فالأحب والأقرب فالأقرب من هول ذلك اليوم".
قال الإمام القرطبي: " أي يهرب، أي تجيء الصاخة في هذا اليوم الذي يهرب فيه من أخيه؛ أي: من موالاة أخيه ومكالمته؛ لأنه لا يتفرغ لذلك، لاشتغاله بنفسه، كما قال بعده: (لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه) أي يشغله عن غيره".
وقيل: إنما يفر حذراً من مطالبتهم إياه، لما بينهم من التبعات. وقيل: لئلا يروا ما هو فيه من الشدة. وقيل: لعلمه أنهم لا ينفعونه ولا يغنون عنه شيئاً. كما قال: (يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ) (الدخان : 41).
وقال عبد الله بن طاهر الأبهري: يفر منهم لما تبين له من عجزهم وقلة حيلتهم, إلى من يملك كشف تلك الكروب والهموم عنه, ولو ظهر له ذلك في الدنيا لما اعتمد شيئاً سوى ربه تعالى.
وذكر الضحاك عن ابن عباس قال: يفر قابيل من أخيه هابيل, ويفر النبي صلى الله عليه وسلم من أمه, وإبراهيم عليه السلام من أبيه, ونوح عليه السلام من ابنه, ولوط من امرأته, وآدم من سوأة بنيه. وقال الحسن: أول من يفر يوم القيامة من أبيه: إبراهيم, وأول من يفر من ابنه نوح; وأول من يفر من امرأته لوط. قال: فيرون أن هذه الآية نزلت فيهم. وهذا فرار التبرؤ.
وقال تعالى: (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ* وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ* وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ* وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ* كَلَّا إِنَّهَا لَظَى* نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى* تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى* وَجَمَعَ فَأَوْعَى) (المعارج : 11ــ 18).
قال الإمام الطبري: "اختلف المفسرون في الذين عنوا بالهاء والميم في قوله (يبصرونهم) على آراء:
الأول: عني بذلك الأقرباء أنهم يعرفون أقربائهم, ويعرف كل إنسان قريبه, فذلك تبصير الله إياهم، ثم يفر بعضهم من بعض, يقول: (لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه) ([1]).
الثاني: عني بذلك المؤمنون أنهم يبصرون الكفار([2]).
الثالث: عني بذلك الكفار الذين كانوا أتباعا لآخرين في الدنيا على الكفر , أنهم يعرفون المتبوعين في النار([3]).
قال الإمام الطبري: "وأولى الأقوال في ذلك بالصحة: قول من قال: معنى ذلك: ولا يسأل حميم حميما عن شأنه، ولكنهم يبصرونهم فيعرفونهم، ثم يفر بعضهم من بعض , كما قال جل ثناؤه : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ* وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ* وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ* لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (عبس : 34ــ 37)".
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بالصواب؛ لأن ذلك أشبهها بما دل عليه ظاهر التنزيل، وذلك أن قوله: (يبصرونهم) تلا قوله: (ولا يسأل حميمٌ حميماً) فلأن تكون الهاء والميم من ذكرهم أشبه منها بأن تكون من ذكر غيرهم...".
وقال: " يقول تعالى ذكره: يود الكافر يومئذ ويتمنى أنه يفتدي من عذاب الله إياه ذلك اليوم ببنيه وصاحبته، وهي زوجته. وأخيه وفصيلته، وهم عشيرته التي تؤويه. يعني التي تضمه إلى رحله، وتنزل فيه امرأته، لقربة ما بينها وبينه، وبمن في الأرض جميعا من الخلق، ثم ينجيه ذلك من عذاب الله إياه ذلك اليوم. وبدأ جل ثناؤه بذكر البنين، ثم الصاحبة، ثم الأخ، إعلاما منه عباده أن الكافر من عظيم ما ينزل به يومئذ من البلاء يفتدي نفسه، لو وجد إلى ذلك سبيلا بأحب الناس إليه، كان في الدنيا، وأقربهم إليه نسبا".
قال الحافظ ابن كثير: "أي لا يسأل القريب قريبه عن حاله وهو يراه في أسوأ الأحوال فتشغله نفسه عن غيره قال العوفي عن ابن عباس يعرف بعضهم بعضا ويتعارفون بينهم ثم يفر بعضهم من بعض بعد ذلك يقول الله تعالى: (لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه) وهذه الآية الكريمة كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) (لقمان : 33)، وكقوله تعالى: (وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) (فاطر : 18)، وكقوله تعالى: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ) (المؤمنون : 101)، وكقوله تعالى: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ* وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ* وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ* لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (عبس : 34ــ 37).
وقوله تعالى: (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ* وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ* وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ* وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ* كَلا) (المعارج : 11ــ 15). أي: لا يقبل منه فداء ولو جاء بأهل الأرض وبأعز ما يجده من المال ولو بملء الأرض ذهبا أو من ولده الذي كان في الدنيا حشاشة كبده يود يوم القيامة إذا رأى الأهوال أن يفتدي من عذاب الله به ولا يقبل منه.
قال الإمام القرطبي: " أي يرونهم. وليس في القيامة مخلوق إلا وهو نصب عين صاحبه من الجن والإنس. فيبصر الرجل أباه وأخاه وقرابته وعشيرته ولا يسأله ولا يكلمه; لاشتغالهم بأنفسهم. وقال ابن عباس: يتعارفون ساعة ثم لا يتعارفون بعد تلك الساعة".
ثم قال الله تعالى ـ بعد هذه الآيات ـ : (كَلَّا إِنَّهَا لَظَى* نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى* تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى* وَجَمَعَ فَأَوْعَى) (المعارج: 15ـ 18).
فالإدبار والتولي عن أوامر الله تعالى، والانشغال عن ذلك بجمع المتاع العاجل سير في عكس اتجاه الزحزحة عن النار، وبحسب السير اليوم في دار الدنيا يكون المضي غداً على الصراط، فانظرْ في أي اتجاه أنت..
وفي تصوير هذه المشاهد التي أوردتها الآيات قال الشاعر([4]) :
واليوم يمتــد الصــراط فمســـرعٌ نحو النعيــــم وزاحـــف متـمـــهلُ
ومُحمــلٌ بالذنــب زلـــتْ رجـلــُـه فهوى ونــــارُ جهنــــمٍٍ تســــتقبل
فأجلتُ طرفي ســــاعة فرأيت مِنْ أمــرِ القيـــامة ما يـَـروع ويُــذهل
هذا أبٌ يســــــعى إلـيــه وحيـــدُه وبمقلتيـــــه تــرقــــبٌ وتـوســــل
أبتاه أرهقني المســيرُ وحاجـتــي شيءٌ يسير لا يّمُضُّ([5]) ويُثـــــقـل
شيء من الحســـنات ينقذني وقـدْ خفـَّـــتْ موازينــــي وفيــك أؤَمِّـل
أنت الذي عودتني فيمـــــا مضـى بذلاً ومثلك في المصــــائب يَبْــذُل
وَإزْوَرَّ وجــهُ أبيـــــه عنه مـردداً نفســـي أحــقُّ بما تقول وأمثــــل
ومضى كسيفَ البال يسألُ نفسـه ماذا جـرى لأبـــي .. أهذا يُعقــل؟
وبدتْ له بين الجمـــــــوع حليلةٌ كــانــت تفضــله وكـان يُفضِّــــــل
وغدا يناديــهــا رويدك زوجتـــي فأنا الحبيــبُ وليس مثـلُك يجــهلُ
ريحانتي أنســــيتِ أيــــامَ الصبــا أيامَ كنــــا من هوانـــا ننــهــــــل؟
أنا من وهبتك في فـؤادي منــزلاً ما كان فيه لغيـــر حبــــك منـــزل
شيء من الحســنات ينقذني وقـد خفت موازينـــي وفيـــك أؤمـــــل
قالت له والْهـمُّ يُشعـــــــل قلبهـــا لهبــاً وفي أحشـــائهـا يتــغلـغـــل
عذراً فـأنت رفيق عمــــري إنمـا نفســي أحـق بما تقول وأمثــــــل
ومضى كَسِيفَ البال حتى لاح في وَسَطِ الزحامِ خيالُ من لا يبــــخل
أمٌ رؤومٌ راح يركـــض نـحوهــــا جذِلاً وهل بعدَ الأمـومة موئــــل؟
حملته في أحشـــــائهـا وتحملـتْ من أجل راحتـه الذي لا يُحمـــــل
أمـــاه يــا أمـــاه مــُــدِّي لي يــداً فلـَـكم بذلــتِ إذا أتيــتُك أســــــأل
شيء من الحســنات ينقذني وقد خفت موازينـــي وفيــــك أؤمـــل
قالت له ـ والدمع يغلب صبرها ـ : نفسي أحــق بما تقـــول وأمثلُ
وصدق قول الحق جل شأنه وعز وعلا: (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) (الحج : 2).
وقال تعالى: (يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ) (الدخان : 41).
وقال تعالى: (لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (عبس : 37).
فما أعز الحسنة يوم القيامة وما أحوج العبد إليها .. فلقد يزحزح عن النار بحسنة واحدة فقط تكون فيها نجاته والفوز العظيم .. (وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ) (آل عمران : 185) .
([1]) أخرجه الطبري عن ابن عباس: (ح/27043)، وعن قتادة: (ح/27044).
([2]) أخرجه الطبري عن مجاهد: (ح/27045).
([3]) أخرجه الطبري عن ابن عباس: (ح/27046).
([4]) هو الشاعر المرهف الحس الجياش العاطفة عبد الرحمن العشماوي (حفظه الله).
([5]) يمض: بالضم والفتح. يؤلم ويوجع. ومضض، كفرح: ألم. والمضض: وجع المصيبة. وانظر:"القاموس المحيط": (حرف "الضاد" مادة/ مضه).منقول
تعليقات
إرسال تعليق